فصل: قال صاحب روح البيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال صاحب روح البيان:

{ثُمَّ} للترتيب والتأخير أي: بعدما أوحينا إليك أو بعد كتب الأولين كما دل ما قبله على كل منهما.
وسئل الثوري على ماذا عطف بقوله ثم قال على إرادة الأزل والأمر المقضي أي: بعدما أردنا في الأزل {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} أي: ملكنا بعظمتنا ملكًا تامًا وأعطينا هذا القرآن عطاء لا رجوع فيه.
قال الراغب الوراثة انتقال قينة إليك عن غيرك من غير عقد ولا ما يجري مجرى العقد وسمي بذلك المنتقل عن الميت ويقال لكل من حصل له شيء من غير تعب قد ورث كذا انتهى وسيأتي بيانه {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} الموصول مع صلته مفعول ثان لأورثنا.
والاصطفاء في الأصل تناول صفو الشيء بالفارسية: بركزيدن وعباد اينجا بموضع كرامت است اكره كه نسبت عبوديت آدمرا حقيقت است كما في كشف الأسرار.
أمتى ورب الكعبة والله تعالى اصطفاهم على سائر الأمم كما اصطفي رسولهم على جميع الرسل وكتابهم على كل الكتب وهذا الإيراث للمجموع لا يقتضي الاختصاص بمن يحفظ جميع القرآن بل يشمل من يحفظ منه جزء ولو أنه الفاتحة فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن واحد منهم يحفظ جميع القرآن ونحن على القطع بأنهم مصطفون كما في المناسبات.
وفي التأويلات النجمية: إنما ذكر بلفظ الميراث لأن الميراث يقتضي صحة النسب أو صحة السبب على وجه مخصوص فمن لا سبب له ولا نسب له فلا ميراث له فالسبب هاهنا طاعة العبد والنسب فضل الرب فأهل الطاعة هم أهل الجنة كما قال تعالى: {أولئك هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} (المؤمنون: 10- 11) فهم ورثوا الجنة بسبب الطاعة وأصل وراثتهم بالسببية المبايعة التي جرت بينهم وبين الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة: 111) فهؤلاء أطاعوا الله بأنفسهم وأموالهم فأدخلهم الله الجنة جزاء بما كانوا يعملون وأهل الفضل هم أهل الله وفضله معهم بأن أورثهم المحبة والمعرفة والقربة كما قال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} (المائدة: 54) الآية.
ولما كانت الوراثة بالسبب والنسب وكان السبب جنسًا واحدًا كالزوجية وهما صاحبا الفرض وكان النسب من جنسين الأصول كالآباء والأمهات والفروع كل ما يتولد من الأصول كالأولاد والأخوة والأخوات وأولادهم والأعمام وأولادهم وهم صاحب فرض وعصبة فصار مجموع الورثة ثلاثة أصناف: صاحب الفرض بالسبب وصنف صاحب الفرض بالنسب وصنف صاحب الباقي وهم العصبة كذلك الورثة هاهنا ثلاثة أصناف كما قال تعالى: {فَمِنْهُمْ} أي: من الذين اصطفينا من عبادنا {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} في العمل بالكتاب وهو المرجأ لأمر الله أي: الموقوف أمره لأمر الله إما يعذبه وإما يتوب عليه وذلك لأنه ليس من ضرورة وراثة الكتاب مراعاته حق رعايته لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَاذَا الادْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} (الأعراف: 169) الآية ولا من ضرورة الاصطفاء المنع عن الوصف بالظلم هذا آدم عليه السلام اصطفاه الله كما قال: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى ءَادَمَ} (آل عمران: 33) وهو القائل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} (الأعراف: 23) الآية.
سئل أبو يزيد البسطامي قدس سره: أيعصي العارف الذي هو من أهل الكشف؟ فقال: نعم {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا} يعني إن كان الحق قدر عليه في سابق علمه شيئًا فلابد من وقوعه.
واعلم أن الظلم ثلاثة: ظلم بين الإنسان وبين الله وأعظمه الكفر والشرك والنفاق، وظلم بينه وبين الناس، وظلم بينه وبين نفسه وهو المراد بما في الآية كما في المفردات.
وتقديم الظلم بالذكر لا يدل على تقديمه في الدرجة لقوله تعالى: {فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ} كما في الأسئلة المقحمة.
وقال بعضهم: قدم الظالم لكثرة الفاسقين ولأن الظلم بمعنى الجهل والركون إلى الهوى مقتضى الجبلة والاقتصاد والسبق عارضان.
وقال أبو الليث الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق كي لا يعجب السابق بنفسه ولا ييأس الظالم من رحمة الله.
وقال القشيري في الإرث يبدأ بصاحب الفرض وإن قل نصيبه فكذا هاهنا بدأ بالظالم ونصيبه أقل من نصيب الآخرين.
{وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} يعمل بالكتاب في أغلب الأوقات ولا يخلو من خلط الشيء، وإنما قال مقتصد بصيعة الافتعال لأن ترك الإنسان للظلم في غاية الصعوبة {وَمِنْهُمْ سَابِقُ} أصل السبق التقدم في السير ويستعار لاحراز الفضل فالمعنى متقدم إلى ثواب الله وجنته ورحمته {بِالْخَيْرَاتِ} بالأعمال الصالحة بضم التعليم والإرشاد إلى العلم والعمل والخير ما يرغب فيه الكل كالعقل والعدل والفضل والشيء النافع وضده الشر.
قال بعض الكبار: وهذه الخيرات على قسمين: قسم من كسب العبد بتقديم الخيرات، وقسم من فضل الرب بتواتر الجذبات إلى أن يسبق على الظالم لنفسه وعلي المقتصد بالسير بالله في الله وإن كان مسبوقًا بالذكر في الأخير كما كان حال النبي عليه السلام مسبوقًا بالخروج في آخر الزمان للرسالة سابقًا بالرجوع إلى الحضرة ليلة المعراج على جميع الأنبياء والرسل كما أخبر عن حال نفسه وحال سابقي أمته بقوله: «نحن الآخرون السابقون» أي: الآخرون خروجًا في عالم الصورة السابقون وصولًا إلى عالم الحقيقة.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه بدأ بالظالمين إخبارًا أنه لا يتقرب إليه إلا بكرمه وإن الظلم لا يؤثر في الاصطفاء ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكره وكلهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص.
وقد روي أن عمر رضي الله عنه قال على المنبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له».
وقال أبو بكر بن الوراق رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأن أحوال العبد ثلاث: معصية وغفلة ثم توبة ثم قربة فإذا عصى دخل في حيز الظالمين وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة دخل في عداد السابقين.
والسابق على ضربين سابق ولد سابقًا وعاش سابقًا ومات سابقًا وسابق ولد سابقًا وعاش ظالمًا ومات سابقًا فاسم الظالم عليهم عارية إذا ولدوا سابقين وماتوا سابقين ولا عبرة بالظلم العارض بل العبرة بالأزل والأبد لا بالبرزخ بينهما فأما من ولد ظالمًا وعاش ظالمًا ومات ظالمًا من هذه الأمة فهو من أهل الكبائر الذين قال النبي عليه السلام فيهم: «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».
فعلى هذا المقتصد من مات على التوبة والسابق من عاش في الطاعة ومات في الطاعة.
أو السابق هو الذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيآته مكفرة وهو معنى قوله عليه السلام: «أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب».
وأما المقتصد فأولئك يحاسبون حسابًا يسيرًا.
وأما الذين ظلموا فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم الله برحمته.
وههنا مقالات أخر كثيرة ذكرنا بعضًا منها على ترتيب الآية وهو أن المراد بالطوائف الثلاث التالي للقرآن تلاوة مجردة والقارىء له العامل به والقارىء العامل بما فيه والمعلم له.
أو من استغنى بماله ومن استغنى بدينه ومن استغنى بربه.
أو الذي يدخل المسجد وقد أقيمت الصلاة والذي يدخله وقد أذن والذي يدخله قبل تأذين المؤذن وإنما كان الأول ظالمًا لأنه نقص نفس الأجر فلم يحصل لها ما حصل لغيرها.
أو الذي يعبد الله على الغفلة والعادة والذي يعبده على الرغبة والرهبة والذي يعبده على الهيبة.
أو الذي شغله معاشه عن معاده والذي اشتغل بالمعاش والمعاد جميعًا والذي شغله معاده عن معاشه.
أو من يرتكب المعاصي غير مستحل لها ولا جاحد تحريمها ومن لا يزيد من الطاعات على الفرائض والواجبات ومن يكثر الطاعات ويبلغ النهاية فيها مع اجتناب المعاصي.
أو من هو معذب ناج ومن هو معاتب ناج ومن هو مقرب ناج.
أو الذي ترك الحرام والذي ترك الشبهة والذي ترك الفضل في الجملة.
أو الذي رجحت سيآته والذي ساوت حسناته سيآته والذي رجحت حسناته.
أو من ظاهره خير من باطنه ومن استوى ظاهره وباطنه ومن باطنه خير من ظاهره.
أو من أسلم بعد فتح مكة ومن أسلم بعد الهجرة قبل الفتح ومن أسلم قبل الهجرة.
أو أهل البدو، وأهل الحضر أي: الأمصار وهم أصحاب الجماعات والجمعات وأهل الجهاد في سبيل الله.
أو من لا يبالي من أين أخذ من الحلال أو الحرام ومن أخذ من الحلال ومن ترك الدنيا لما أنه في حلالها حساب وفي حرامها عذاب.
أو الذي يطلب فوق القوت والكفاف والذي يطلب القوت لا الزيادة عليه والذي يتوكل على الله ويجعل جميع جهده في طاعته.
أو الذي يدخل الجنة بشفاعة الشافعين والذي يدخلها برحمة الله وفضله والذي ينجو بنفسه وينجو غيره بشفاعته.
أو الذي يضيع العمر في الشهوة والمعصية والذي يحارب فيهما والذي يجتهد في الزلات لأن محاربة الصديقين في الزلات ومحاربة الزاهدين في الشهوات ومحاربة التائبين في الموبقات.
أو من يطلب الدنيا تمتعًا ومن يطلبها تلذذًا ومن يتركها تزاهدًا.
أو الذي يطلب ما لم يؤمر بطلبه وهو الرزق والذي يطلب ما أمر به وما لم يؤمر به والذي يطلب مرضاة الله ومحبته.
أو أصحاب الكبائر وأرباب الصغائر والمجتنب عنهما جميعًا فهذا القائل إنما حمل الأمر على أشده.
أو من يشتغل بعيب غيره ولا يصلح عيب نفسه ومن يطلب عيب نفسه ويطمع في عيب غيره أيضًا أو من يشتغل بعيب نفسه ولا يطلب عيب غيره أصلًا.
أو الجاهل والمتعلم والعالم أو الزاهد لأنه ظلم نفسه بترك حظه من الدنيا والعارف والمحب.
أو الذي يجزع عند البلاء والصابر على البلاء والمتلذذ بالبلاء.
أو من ركن إلى الدنيا ومن ركن إلى العقبى ومن ركن إلى المولى.
أو من جاد بنفسه ومن جاد بقلبه ومن جاد بروحه.
أو من له علم اليقين ومن له عين اليقين ومن له حق اليقين.
أو الذي يحب الله لنفسه والذي يحبه الله والذي أسقط عنه مراده لمراد الحق لم ير لنفسه طلبًا ولا مرادًا لغلبة سلطان الحق عليه.
أو من يراه في الآخرة بمقدار أيام الدنيا في كل جمعة مرة ومن يراه في كل يوم مرة ومن هو غير محجوب عنه ولو ساعة.
أو من هو في ميدان العلم ومن هو في ميدان المعرفة ومن هو في ميدان الوجد.
أو السالك والمجذوب والمجذوب السالك فالسالك هو المتقرب والمجذوب هو المقرب والمجذوب السالك هو المستهلك في كمالات القرب الفاني عن نفسه الباقي بربه.
أو من هو مضروب بسوط الأمل مقتول بسيف الحرص مضطجع عل باب الرجاء ومن هو مضروب بسوط الحسرة مقتول بسيف الندامة مضطجع على باب الكرم ومن هو مضروب بسوط المحبة مقتول بسيف الشوق مضطجع على باب الهيبة.
فالظالم على هذه الأقاويل كلها هو المؤمن.
وأما قول من قال: الظالم لنفسه آدم عليه السلام والمقتصد إبراهيم عليه السلام والسابق محمد عليه السلام ففيه أن الآية في حق هذه الأمة إلا أن يعاد الضمير في قوله منهم إلى العباد مطلقًا.
فإن قلت هل يقال إن آدم ظلم نفسه؟ قلت: هو قد اعترف بالظلم لنفسه في قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} وإن كان الأدب الإمساك عن مثل هذا المقال في حقه وإن كان له وجه في الجملة كما قال الراغب الظلم يقال في مجاوزة الحق الذي يجري مجرى نقطة الدائرة ويقال فيما يقل ويكثر من التجاوز ولهذا يستعمل في الذنب الكبير والصغير ولذلك قيل لآدم ظالم في تعديه ولإبليس ظالم وإن كان بين الظلمين بون بعيد انتهى {بِإِذْنِ اللَّهِ} جعله في كشف الأسرار متعلقًا بالأصناف الثلاثة على معنى ظلم الظالم وقصد المقتصد وسبق السابق بعلم الله وإرادته.
والظاهر تعلقه بالسابق كما ذهب إليه أجلاء المفسرين على معنى بتيسيره وتوفيقه وتمكينه من فعل الخير لا باستقلاله.
وفيه تنبيه على عزة منال هذه الرتبة وصعوبة مأخذها.
قال القشيري قدس سره: كأنه قال يا ظالم ارفع رأسك فإنك وإن ظلمت فما ظلمت إلا نفسك ويا سابق اخفض رأسك فإنك وإن سبقت فما سبقت إلا بتوفيقي {ذَالِكَ} السبق بالخيرات {هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} من الله الكبير لا ينال إلا بتوفيقه أو ذلك الإيراث والاختيار فيكون بالنظر إلى جمع المؤمنين من الأمة وكونه فضلًا لأن القرآن أفضل الكتب الإلهية وهذ الأمة المرحومة أفضل جميع الأمم السابقة.
وفي التأويلات النجمية: أي: الذي ذكر من العالم مع السابق في الإيراث واصطفاء ودخول الجنة ومن دقائق حكمته أنه تعالى ما قال في هذا المعرض الفضل العظيم لأن الفضل العظيم في حق الظالم أن يجمعه مع السابق في الفضل والمقام كما جمعه معه في الذكر.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ}.
يقال عدن بمكان كذا إذا استقر ومنه المعدن لمستقر الجواهر كما في المفردات أي: بساتين استقرار وثبات وإقامة بلا رحيل لأنه لا سبب للرحيل عنها وهو إما بدل من الفضل الكبير بتنزيل السبب منزلة المسبب أو مبتدأ خبره قوله تعالى: {يَدْخُلُونَهَا} جمع الضمير لأن المراد بالسابق الجنس وتخصيص حال السابقين ومالهم بالذكر والسكوت عن الفريقين الآخرين وإن لم يدل على حرمانهما من دخول الجنة مطلقًا لكن فيه تحذير لهما من التقصير وتحريض على السعي في إدراك شئون السابقين.
وقال بعضهم: المراد بالأصناف الثلاثة الكافر والمنافق والمؤمن أو أصحاب المشأمة وأصحاب الميمنة ومن أريد بقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} (الواقعة: 10) أو المنافقون والمتابعون بالإحسان وأصحاب النبي عليه السلام أو من يعطي كتابه وراء ظهره ومن يعطي كتابه بشماله ومن يعطي كتابه بيمينه.
فعلى هذه الأقوال لا يدخل الظالم في الجنات لكونه غير مؤمن وحمل هذا القائل الاصطفاء على الاصطفاء في الخلقة وإرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب والأول هو الأصح وعليه عامة أهل العلم كما في كشف الأسرار.